فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا ** وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ

ومنها: دوَّم الطائر، إذا حَلَّق ودار.
قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا} يجوز أن يكون في {ليس} ضمير الشأنِ- وهو اسمها- وحينئذ يجوز أن يكون {سبيل} مبتدأ، و{عَلَيْنَا} الخبر، والجملة خبر ليس. ويجوز أن يكون {عَلَيْنَا} وحده هو الخبر، و{سَبِيلِ} مرتفع به على الفاعلية. ويجوز أن يكون {سَبِيلِ} اسم {ليس} والخبر أحد الجارين أعني: {عَلَيْنَا} أو {فِي الأميين}.
ويجوز أن يتعلق {فِي الأميين} بالاستقرار الذي تعلق به {عَلَيْنَا} وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس {ليس} نقله أبو البقاء، وغيرُه، وفي هذا النقل نظر؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث، فمن قال: تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه، ومن قال: لا تدل على الحدث منعوا إعمالها. واتفقوا على أن {ليس} لا يدل على حدث ألبتة، فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَل.
ويجوز أن يتعلق {فِي الأميين} بـ {سَبيلٌ}، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ، والضمانِ، ونحوها. ويجوز أن يكون حالًا منه فيتعلق بمحذوف.
قال: فالأمي منسوب إلى الأم، وسُمِّي النبي صلى الله عليه وسلم أميًا؛ قيل: لأنه كأن لا يكتب، وذلك لأن الأمَّ: أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب.
وقيل: نسبة إلى مكة، وهي أمُّ القُرَى. اهـ. بتصرف يسير.

.من أقوال المفسرين في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ}:

.قال الفخر:

فيه وجوه:
الأول: أنهم قالوا: إن جواز الخيانة مع المخالف مذكور في التوراة وكانوا كاذبين في ذلك وعالمين بكونهم كاذبين فيه ومن كان كذلك كانت خيانته أعظم وجرمه أفحش.
الثاني: أنهم يعلمون كون الخيانة محرمة.
الثالث: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يدل على أن الكافر لا يُجعل أهلًا لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب.
وفيه ردّ على الكفرة الذين يحرِّمون ويحلّلون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع.
قال ابن العربي: ومن هذا يخرج الردّ على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدًا من أهل القِبْلة قاله.
وفي الخبر: لما نزلت هذه الآية قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البَرّ والفاجر». اهـ.

.قال القرطبي:

الأمانة عظيمة القَدْر في الدِّين، ومن عِظم قدرها أنها تقوم هي والرَّحِم على جَنَبَتَي الصراط؛ كما في صحيح مسلم.
فلا يُمَكّن من الجواز إلا من حفظهما.
وروى مسلم عن حذيفة قال حدّثنا النبيّ صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال: «ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه» الحديث.
وقد تقدم بكماله أوّل البقرة.
وروى ابن ماجه حدّثنا محمد ابن المُصَفَّى حدّثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سِنان عن أبي الزاهريّة عن أبي شجرة كثير ابن مُرة عن ابن عمر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدًا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تَلقه إلا مَقِيتًا مُمْقَتًا فإذا لم تلقه إلا مَقِيتًا مُمْقَتًا نُزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تَلقه إلا خائنًا مُخَوَّنًا فإذا لم تلقه إلا خائنًا مخوّنًا نُزعت منه الرحمة فإذا نُزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجِيمًا ملعنًا فإذا لم تَلقه إلا رجِيمًا مُلْعَنًا نزعت منه رِبْقة الإسلام» وقد مضى في البقرة معنى قولِه عليه السلام: «أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» والله أعلم. اهـ.

.قال ابن كثير:

عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه ذَكَرَ رَجُلا مِنْ بَنِي إسرائيل سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إسرائيل أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ. فَقَالَ: كَفَى بِالله شَهِيدًا. قَالَ: ائْتِنِي بِالْكَفِيلِ. قَالَ: كَفَى بِالله كَفِيلا. قَالَ: صَدَقْتَ. فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَبًا يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلأجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكِبًا، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ، وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا، ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ، فَقَالَ: اللهمَّ أنك تَعْلَمُ أَنِّي استَسْلَفْتُ فُلانًا أَلْفَ دِينَارٍ فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقُلْتُ: كَفَى بِالله كَفِيلا فَرَضِيَ بِكَ. وَسَأَلَنِي شَهِيدًا، فَقُلْتُ: كَفَى بِالله شَهِيدًا فَرَضِيَ بِكَ، وَإِنِّي جَهَدْتُ أَنْ أَجِدَ مَرْكَبًا أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي اسْتَوْدَعْتُكَهَا. فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَبًا يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ، فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَبًا يَجِيئُهُ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لأهلهِ حَطَبًا، فَلَمَّا كَسَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ، ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ تَسَلَّف مِنْهُ، فَأَتَاه بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: وَالله مَا زِلْتُ جَاهِدًا فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَبًا قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ. قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: أَلَمْ أُخْبِرْكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَبًا قَبْلَ هَذَا؟ قَالَ: فَإِنَّ الله قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِأَلْفِ دِينَارٍ رَاشِدًا. اهـ.

.قال القرطبي:

ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافًا لمن ذهب إلى ذلك؛ لأن فُسّاق المسلمين يوجد فيهم من يؤدّي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولًا.
فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة؛ ألا ترى قولهم: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحَريمنا بغير حرج عليه؛ ولو كان ذلك كافيًا في تعديلهم لسُمعت شهادتهم على المسلمين. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري:

قوله جلّ ذكره: {وَمِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنَهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} الآية.
أخبر أنهم- مع ضلالتهم وكفرهم- متفاوتون في أخلاقهم، فكُلُّهمْ خَوَنَةٌ في أمانة الدِّين، ولكنّ منهم من يرجع إلى سداد المعاملة، ثم وإن كانت معاملتهم بالصدق فلا ينفعهم ذلك في إيجاب الثواب ولكن ينفعهم من حيث تخفيف العذاب؛ إذ الكفار مُطَالَبُون بتفصيل الشرائع، فإذا كانوا في كفرهم أقلَّ ذنبًا كانوا بالإضافة إلى الأخسرين أقلَّ عذابًا، وإن كانت عقوبتهم أيضا مؤبَّدة.
ثم بيَّن أنه ليس الحكم إليهم حتى إذا: {قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ}.
فلا تجري عليهم هذه الحالة، أو تنفعهم هذه القالة، بل الحكم لله تعالى. اهـ.

.من فوائد ابن عاشور:

قال رحمه الله:
وقد ذكر الله هنا أنّ في أهل الكتاب فريقين: فريقًا يؤدّي الأمانة تعففًا عن الخيانة وفريقًا لا يؤدّي الأمانة متعلّلين لإباحة الخيانة في دينهم، قيل: ومن الفريق الأول عبد الله بن سلام، ومن الفريق الثاني فِنْحَاص بن عازوراء وكلاهما من يهود يثرب والمقصود من الآية ذمّ الفريق الثاني إذ كان من دينهم في زعمهم إباحة الخَون قال: {ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأمين سبيل} فلذلك كان المقصود هو قوله: {ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} إلخ ولذلك طُوِّل الكلام فيه.
وإنما قدّم عليه قوله: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار} إنصافًا لحقّ هذا الفريق، لأنّ الإنصاف مما اشتهر به الإسلام، وإذ كان في زعمهم أنّ دينهم يبيح لهم خيانة غيرهم، فقد صار النعيُ عليهم، والتعبيرُ بهذا القول لازمًا لجميعهم أمينهم وخائنهم، لأنّ الأمين حينئذ لا مزية له إلاّ في أنه ترك حقًا يبيح له دينُه أخذه، فترفّع عن ذلك كما يترفع المتغالي في المروءة عن بعض المباحات.
وتقديم المسند في قوله: {ومن أهل الكتاب} في الموضعين للتعجيب من مضمون صلة المسند إليهما: ففي الأول للتعجيب من قوة الأمانة، مع إمكان الخيانة ووجود العذر له في عادة أهل دينه، وفي الثاني للتعجيب من أن يكون الخوْن خُلْقًا لمتبع كتاب من كتب الله، ثم يزيد التعجيبُ عند قوله: {ذلك بأنهم قالوا} فيكسب المسند إليهما زيادة عجَب حالٍ.
وعُدّي {تأمنه} بالباء مع أنّ مثله يتعدّى بعلي كقوله: {هل آمنكم عليه} [يوسف: 64]، لتضمينه معنى تُعامله بقنطار ليشمل الأمانة بالوديعة، والأمانةَ بالمعاملة على الاستيمان، وقيل الباء فيه بمعنى على كقول أبي ذرّ أو عباسٍ بن مِرداس:
أربٌّ يَبولُ الثعْلُبَان بِرَأسه

وهو محمل بعيد، لأنّ الباء في البيت للظرفية كقوله تعالى: {ببطن مكة} [الفتح: 24].
وقرأ الجمهور {يؤدّهِ} إليك بكسر الهاء من يؤدّهِ على الأصل في الضمائر.
وقرأه أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم، وأبُو جعفر: بإسكان هاء الضمير في يؤدّه، فقال الزجاج: هذا الإسكان الذي روي عن هؤلاء غلط بيِّن لأنّ الهاء لا ينبغي أن تجزم وإذا لم تجزم فلا يجوز أن تكسر في الوصل (هكذا نقله ابن عطية ومعناه أنّ جزم الجواب لا يظهر على هاء الضمير بل على آخر حرف من الفعل ولا يجوز تسكينها في الوصل كما في أكثر الآيات التي سكنوا فيها الهاء).
وقيل هو إجرَاء للوصل مُجرى الوقف وهو قليل، قال الزجاج: وأما أبو عمرو فأراه كان يختلس الكسر فغلط عليه من نقله وكلام الزجاج مردود لأنه راعى فيه المشهور من الاستعمال المقيس، واللغة أوسع من ذلك، والقراءة حجة.
وقرأه هشام عن ابن عامر، ويعقوب باختلاس الكسر.
وحكى القرطبي عن الفرّاء: أنّ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرّك ما قبلها يقولون ضربته كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصله الرفع وهذا كما قال الراجز:
لَما رأى ألاّ دَعَهْ ولاَ شِبَع ** مَالَ إلى أرْطَاةِ حقف فاضطجع

والقِنطار تقدم آنفًا في قوله تعالى: {والقَناطير المقنطرة من الذهب والفضة} [آل عمران: 14].
والدينار اسم للمسكوك من الذهب الذي وزنه اثنتان وسبعون حبة من الشعير المتوسط وهو معرّب دِنَّار من الرومية.
وقد جعل القنطار والدينار مَثَلين للكثرة والقلة، والمقصود ما يفيده الفحوى من أداء الأمانة فيما هو دون القنطار، ووقوع الخيانة فيما هو فوق الدينار.
وقوله: {إلا ما دمت عليه قائمًا} أطلق القيام هنا على الحرص والمواظبة: كقوله: {قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18] أي لا يفعل إلاّ العدل.
وعديّ {قائمًا} بحرف (على) لأنّ القيام مجاز على الإلحاح والترداد فتعديته بحرف الاستعلاء قرينة وتجريد للاستعارة.
وما من قوله: {إلا ما دمت عليه قائمًا} حرف مصدري يصير الفعل بعده في تأويل مصدر، ويكثر أن يقدر معها اسم زمان ملتزَمٌ حذفه يدل عليه سياق الكلام فحينئذ يقال ما ظرفية مصدرية.
وليست الظرفية مدلولها بالأصالة ولا هي نائبة عن الظرف، ولكنها مستفادة من موقع (مَا) في سياق كلام يؤذن بالزمان، ويكثر ذلك في دخول ما على الفعل المتصرّف من مادة دَام ومرادفها.
وما في هذه الآية كذلك فالمعنى: لا يؤدّه إليك إلاّ في مدة دوام قيامك عليه أي إلحاحك عليه.
والدوام حقيقته استمرار الفعل وهو هنا مجاز في طول المدة، لتعذر المعنى الحقيقي مع وجود أداة الاستثناء، لأنه إذا انتهى العمر لم يحصل الإلحاح بعدَ الموت.
والاستثناء من قوله: {إلا ما دمت عليه قائمًا} يجوز أن يكون استثناء مفرّغًا من أوقات يدل عليها موقع (مَا) والتقدير لا يؤدّه إليك في جميع الأزمان إلاّ زمانًا تدوم عليه فيه قائمًا فيكون ما بعد (إلاّ) نصبًا على الظرففِ، ويجوز أن يكون مفرّغًا من مصادر يَدل عليها معنى ما المصدرية، فيكون ما بعده منصوبًا على الحال لأنّ المصدر يقع حالًا.
وقدّم المجرور على متعلقه في قوله: {عليه قائمًا} للاهتمام بمعنى المجرور، ففي تقديمه معنى الإلحاح، أي إذا لم يكن قيامُك عليه لا يُرجعُ لك أمانتك.
والإشارة في قوله: {ذلك بأنهم قالوا} إلى الحكم المذكور وهو {إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك} وإنما أشير إليه لكمال العناية بتمييزه لاختصاصه بهذا الشأن العجيب.
والباء للسبب أي ذلك مُسَببٌ عن أقوال اختلقوها، وعبّر عن ذلك بالقول، لأنّ القول يصدر عن الاعتقاد، فلذا ناب منابه فأطلق على الظنّ في مواضع من كلام العرب.
وأرادوا بالأميين من ليسوا من أهل الكتاب في القديم، وقد تقدم بيان معنى الأمي في سورة البقرة.
وحرف (في) هنا للتعليل.
وإذ قد كان التعليل لا يتعلق بالذوات، تعيَّن تقدير مضاف مجرور بحرف (في) والتقدير في معاملة الأمّيّين.
ومعنى ليس علينا في الأميين سبيل ليس علينا في أكل حقوقهم حرج ولا إثم، فتعليق الحكم بالأميين أي ذواتِهم مراد منه أعلق أحوالهم بالغرض الذي سبق له الكلام.
فالسبيل هنا طريق المؤاخذة، ثم أطلق السبيل في كلام العرب مجازًا مشهورًا على المؤاخذة قال تعالى: {مَا على المحسنين من سبيل} [التوبة: 91] وقال: {إنما السبيل على الذين يستأذنوك} [التوبة: 93] وربما عبّر عنه العرب بالطريق قال حُميد بن ثور:
وهل أنا إن علّلتُ نفسي بسَرحة ** من السرْح موجود عليَّ طريق

وقصدهم بذلك أن يحقروا المسلمين، ويتطاولوا بما أوتوه من معرفة القراءة والكتابة مِنْ قبلهم.
أو أرادوا الأميين بمعرفة التوراة، أي الجاهلين: كناية عن كونهم ليسوا من أتباع دِين موسى عليه السلام.
وأيَّامًا كان فقد أنْبَأ هذا عن خلق عجيب فيهم، وهو استخفافهم بحقوق المخالفين لهم في الدين، واستباحةُ ظلمهم مع اعتقادهم أنّ الجاهل أو الأمّي جدير بأن يدحَضُ حقُه.
والظاهر أنّ الذي جرّأهم علَى هذا سوء فهمهم في التوراة، فإنّ التوراة ذكرت أحكامًا فرّقت فيها بين الإسرائيلي وغيره في الحقوق، غير أنّ ذلك فيما يرجع إلى المؤاساة والمخالطة بين الأمة، فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الخامس عشر: في آخر سبع سنين تعمل إبراء يبرئ كلُ صاحب دين يدَه ممّا أقرض صاحبه الأجنبيَّ تُطالِب، وأما ما كان لك عند أخيك فتبرئة وجاء في الإصحاح 23 منه: لا تقرض أخاك بربا فضة أو ربا طعام وللأجنبي تُقرض بربا ولكن شَتان بين الحقوق وبين المؤاساة فإنّ تحريم الربا إنما كان لقصد المؤاساة، والمؤاساة غير مفروضة مع غير أهل الملّة الواحدة.
وعن ابن الكلبي قالت اليهود: الأموال كلّها كانت لنا، فما في أيدي العرب منها فهو لنا، وإنهم ظلمونا وغصَبونا فلا إثم علينا في أخذ أموالنا منهم.
وهذا الخلقان الذميمان اللذان حكاهما الله عن اليهود قد اتصف بهما كثير من المسلمين، فاستحلّ بعضهم حقوق أهل الذمة، وتأوّلوها بأنهم صاروا أهل حرب، في حين لا حرب ولا ضرب.
وقد كذّبهم الله تعالى في هذا الزعم فقال: {ويقولون على الله الكذب} قال المفسرون: إنهم ادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم.
وروى عن سعيد بن جبير أنه لما نزل قوله تعالى: {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه} إلى قوله: {وهم يعلمون} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ وهو تحت قدميّ هاتين إلاّ الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر».
وقوله: {وهم يعلمون} حال أي يعتمدون الكذب: إما لأنهم علموا أنّ ما قاسوه على ما في كتابهم ليس القياس فيه بصحيح، وإما لأنّ التأويل الباطل بمنزلة العلم بالكذب، إذ الشبهة الضعيفة كالعهد. اهـ.